الْهِجْرَةُ دُرُوسٌ وَعِبَرٌ
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي تَمَّتْ كَلِمَاتُهُ صِدْقَاً وَعَدْلاً ، وَأحْكَمَ تَشْرِيْعَهُ قَوْلاً فَصْلاً ، وَخَتَمَ بِالإسْلامِ هِدَايَتَهُ شَرْقَاً وَغَرْبَاً ، نَحْمَدُهُ حَمْدَاً تَعْظِيْمَاً لِجَلالِهِ، وَنَشْكُرُهُ شُكْرَاً يَلِيْقُ بِعَظَمَتِهِ وَكَمَالِهِ ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ المُلِكُ الحَقُّ المُبِينُ ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُه وَرَسُولُهُ الْصَّادِقُ الْوَعْدِ الأمِيْنُ r ، وَعَلَى آلِهِ وأصَحْابِهِ من الأنصار والمهاجرين ، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ .
أَمَّا بَعْدُ : فَيَا عِبَادَ اللهِ :
فَيَقُولُ الْحَقُّ ـ تَبَارَكَ وَتعَالَى ـ فِي مُحْكَمِ الْتّنْزِيْلِ وَهُوَ أصْدَقُ الْقَائِلِيْنَ : ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيْلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيْمٌ ( ([1]).
عِبَادَ اللهِ :
إنَّ الْهِجْرَةَ حَدَثٌ فَرِيْدٌ فِي حَيَاةِ الأمَّةِ الإسْلامِيَّةِ ، بَلْ نَهْجٌ جَدِيْدٌ فِي تَارِيْخِ الْشُّعُوبِ الْبَشَرِيَّةِ ، إذْ سَلَكَتْ بِالنَّاسِ كُلِّهُمْ أجْمَعِيْنَ مَثَلا يُحْتَذَى ، وَسَبِيْلاً يُجْتَبَى هُوَ مَثَلُ الْتَّضْحِيَةِ بِالْوَطَنِ وَالأهْلِ، وَسَبِيْلُ الْفِدَاءِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ ، لَقَدْ شَاءَتْ حِكْمَةُ اللهِ ـ عَزَّوَجَلَّ ـ أنْ يُمَيِّزَ الْمُؤمِنِيْنَ الْصَّادِقِيْنَ عَنِ الْمُنَافِقِيْنَ وَالْكَافِرِيْنَ فَقَالَ : ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِيْنَ خَلَوا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسْتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزِلْزِلُواْ حَتَّى يَقُوْلَ الرَّسُوْلُ وَالَّذِيْنَ آَمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ( ([2]) ، فَالْصِّرَاعُ ، كَماَ فِي الْهِجْرَةِ ـ بَيْنَ الْحَقَّ وَالْبَاطِلِ يَهَبُ الْنُّفُوسَ الْمُؤمِنَةَ قُوَّةً ، وَالأرْوَاحَ الْمُطْمَئِنَّةَ رِفْعَةً ، يَقُولُ اللهُ ـ جَلَّ وَعَلا ـ : ) مَّا كَانَ اللهُ ِلَيَذَرَ الْمُؤْمِنِيَنَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيْزَ اَلْخَبِيْثَ َمِنَ اَلْطَّيِّبِ وَمَاَ كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآَمِنُواْ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيْمٌ ( ([3]) ، فَلَقَدْ اقْتَضَتْ سُنَّةُ اللهِ الْجَارِيَةُ فِي خَلْقِهِ الثَّابِتَةُ فِي كَوْنِهِ أنْ لا تَدَعَ الْصَّفَ الْمُسْلِمَ مُخْتَلِطَ الْمَعَالِمِ وَالأرْكَانِ يَتَوَارَى فِيْهِ الْمُنَافِقُونَ وَرَاءَ دَعْوى الإيْمَانِ وَسِتَارِ الإسْلامِ وَالإحْسَانِ ، إذْ أخْرَجَ اللهُ هَذِهِ الأمَّةَ الْمُسْلِمَةَ لِتُؤدِّيَ دَوْرَاً كَوْنِيَّاً كَبِيْرَاً وَلِتَحْمِلَ لِلْنَّاسِ مَنْهَجَاً إلَهِيَّاً فَرِيْدَاً ، وَلِتُنْشِيءَ فِي الأرْضِ نِظَامَاً عَالَمِيَّاً جَدِيْدَاً ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ البَلاءُ نِعْمَةً ، وَاْلاخْتِبَارُ رَحْمَةً ) لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِنَةٍ(([4]) ، إذِ الإسْلامُ مَنْهَجٌ لِلْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ ، يَتِمُّ تَحْقِيْقُهُ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بِجُهْدٍ بَشَرِيٍّ ، قَدْرَ الْطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ ، غَيْرَ أنَّهُ لا يَغْفَلُ ـ خِلالَ مَسَيْرَتِهِ ـ فِطْرَةَ الإنْسَانِ وَطَبِيْعَتَهُ وَحُدُودَ قُدْرَتِهِ وَطَاقَتَهُ قَالَ اللهُ عَزَّوَجَلَّ: )إِنَّ الَّذِيْنَ تَوَفَّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظَاِلِمي أَنْفُسَهُمْ قَالُواْ فِيْمَ كُنْتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِيْنَ فِي اَلأرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ فَتُهَاجِرُواْ فِيْهَا فَأُوَلِئَكَ مَأْوَاُهْمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيْرَاً إِلاَّ اَلْمُسْتَعَفِيْنَ مِنَ الْرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيْلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيْلا فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوَاً غَفُوُرَاً ( ([5]) ، بِذَلِكَ يُعَالِجُ الْقُرْآنُ الْكَرِيْمُ الْنُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ ، وَيَسْتَثِيْرُ عَنَاصِرَ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ فِيْهَا ، وَيُطَارِدُ عَوَامِلَ الْضَّعْفِ وَالْشُّحِّ لَدَيْهَا ، ثُمَّ يُعَالِجُ كَذَلِكَ مَخَاوِفَ الْنَّفْسِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَهِيَ تُوَاجِهُ مَخَاطِرَ الْهِجْرَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ الَّتِي كَانَتْ قَائِمَةً ، وَالَّتِي قَدْ تَتَكَرَّرُ بِنَفْسِهَا أوْ بِمَا يُشَابِهُهَا مِنَ الْمَخَاوُفِ وَالْمَخَاطِرِ عَلَى اخْتِلافِ الأزْمَانِ وَتَبَايُنِ الأقْطَارِ فَيَقُولُ تَعَالَى: ) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيْلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَْرْضِ مُرَاغَمَاً كَثِيْرَاً وَسَعَةْ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرَاً إَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيْماً ( ([6]).
أَيَّهَا الْمُسْلِمون :
إِنَّ لِلْهِجْرَةِ اَلنَبَوِيَةِ الشَّرِيفَةِ أَسْبَابَاً كَثِيْرَةً وَحِكَمَاً عَدِيْدَةً يُدْرِكُهَا أَرْبَابُ البَصَائِرِ العَمِيْقَةِ فَمِنْ هَذِهِ الأَسَبَابِ إِثْبَاتُ الشَّخْصِيَةِ الإِسْلامِيَةِ ، وإبْرَازُ الْذَّاتِيَّةِ الإيمَانِيَّةِ تِلْكَ الَّتِي تَبْحَثُ عَنِ الْخِبْرَاتِ وَتُسَارِعُ إلَيْهَا ، وَتُحَذِّرُ مِنَ الْسَّيِّئَاتِ وَتَنْأى عَنْهَا ، وَهِيَ بِهَذَا تَرْتَبِطُ بِمَنْ سَبَقَ مِنَ الْرَّهْطِ الْكَرِيْمِ مِنَ الأنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِيْنَ ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيْمِ : ) وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيْزُ اَلْحَكِيْمُ ( ([7]) ، أَجَلْ .. إنَّ هذَا النَّبِيَّ الْكَرِيْمَ ـ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ أفْضَلُ الْصَّلاةِ وَأتَمُّ الْتَّسْلِيمِ ـ هَاجَرَ مُتَقَرِّبَاً إلَى رَبِّهِ مُلْتَجِأً إلَى مَوْلاهُ ، وَخَرَجَ مُعْتَصِمَاً بِهِ مُسْتَنِدَاً إلَى حِمَاهُ ، هَاجَرَ إلَيْهِ ـ سُبْحَانَهُ ـ بِحِسِّهِ وَنَفْسِهِ قَبْلَ أنْ يُهَاجِرَ إلَيْهِ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ ، وَخَرَجَ إلَيْهِ ـ تَعَالَى ـ لِيُخَلِّصَ لَهُ سِرَّهُ وَبَاطِنَهُ قَبْلَ أنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ كَيَانَهُ وَظَاهِرَهُ بَعِيْدَاً عَنْ مَوَاطِنِ الْفِتَنِ وَالآثَامِ وَمَوَاضِعِ الْسُّوءِ وَالآلامِ ، وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ دَلِيْلُ الإيمَانِ الْصَّادِقِ قَالَ تعَالَى : ) ِللْفُقَرَاءُ اَلْمُهَاجِرِيْنَ اَلْذَّيْنَ أُخْرِجُواْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَانَا وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَادِقُونَ ( ([8]) ، نَعَمْ .. إنَّ مِنْ حِكَمِ الْهِجْرَةِ الظَّاهِرَةِ تَلَقِّيَ الْدِّيْنَ بِثَوَابِتِهِ وَأصُولِهِ وَالتَّفَقُّهَ فِيْهِ بِدَقَائِقِهِ وَفُرُوعِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي عَصْرِ الْنَّبِيِّ r خَاصَاً بِالْزَّمَنِ الَّذِي كَانَ فِيْهِ إرْسَالُ الْدُّعَاةِ وَالْمُرْشِدِيْنَ مِنْ قَبْلِهِ r مُتَعَذِّرَاً لِقُوَّةِ الْمُشْرِكِيْنَ وَبَغْيِهِمْ علَى الْمُسْلِمِيْنَ وَدُعَاتِهِمْ ، إذْ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيْضَةٌ فِي رِحَابِ هَذَا الْدِّيْنِ قَالَ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ ـ : ) وَمَا كَانَ اَلْمُؤْمُنُونَ لِينْفِرُواْ كَافَّةً ، فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ ِفرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقهُواْ فِي اَلْدَّيْنِ وَليِنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ( ([9]) ، وَمِنْ أسْبَابِ الْهِجْرَةِ وحِكَمِهَا أكْمَالُ حَقَائِقِ الإيْمَانِ فِي نُفُوسِ أصْحَابِهِ ، بِجَمْعِهِمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَتِ الْهِجْرَةُ وَاجِبَةٌ فِي صَدْرِ الإسْلامِ، بَلْ كَانَتْ لازِمَةً لِلإيْمَانِ ، لُزُومَاً بَيِّنَاً وَلِذَلِكَ اسْتَغْنَي بِذِكْرِهَا عَنْ ذِكْرِهِ إيْجَازَاً فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَتَأمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى : ) فَاْسْتَجَاَبَ لَهُمْْ رَبَّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيْعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَاْلَّذِيْنَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيْلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواَ لأكَفِرَنَّ عَنْهُمْ سَيِئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلأَْنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلثَّوَابِ( ([10]).
أَيُّهَا الْمُؤمِنُونَ :
حِيْنَ عَزَمَ رَسُولُ اللهِ r عَلَى تَرْكِ مَكَّةَ إلَى الْمَدِيْنَةِ مُهَاجِرَاً ألْقَى الْوَحْيُ الْكَرِيْمُ فِي قَلْبِهِ وَعَلَى لِسَانِهِ هَذَا الْدُّعَاءَ الْجَمِيْلَ : ) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَأْجْعَل لِّي مِنْ لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ( ([11]) ، فَصَارَتِ الْمَدِيْنَةُ الْنَّبَوِيَّةُ لَهُ r دَارَاً وَقَرَارَاً وَأهْلُهَا لَهُ أشْيَاعَاً وَأنْصَارَاً وكَانَ مِمَّا أنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا كَانُوا أَجْمَعُوا لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ) َوإِذْ يَمْكُرُ بِكَ اْلذِّيْنَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتِلُوْكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكِرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِيْن ( ([12]) ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ r فَأخَذَ حُفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ وَأخَذَ اللهُ علَى أبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلا يَرَونَهُ فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ الْتُّرَابَ عَلَى رُؤوسِهِمْ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الآيَاتِ : ) يس وَالْقُرْآنُ اَلْحَكِيْمِ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِيْنَ عَلَى ِصَراطٍ مُسْتَقِيْمٍ تَنْزِيَل اَلْعَزِيْزِ اَلْرَّحِيْمِ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ اَلْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إِنِّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى اَلأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنَ أَيْدِيْهِمْ سَدَّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدَّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ( ([13]) ، وَالْحِكْمَةُ مِنْ وَضْعِ الْتُّرَابِ دُونَ غَيْرِهِ الأشِارَةُ لَهُمْ بِأنَّهُمْ الأذَلُّونَ الأصْغَرُونَ الَّذِيْنَ أُرْغِمُوا وَأُلْصِقُوا بِالْرِّغَامِ وَهُوًَ الْتُّرَابُ وَأنَّهُ ـ كَذَلِكَ ـ سَيُلْصِقُهُمْ بِالْتُّرَابِ بَعْدَ هَذَا ) وَقُلْ لِلَّذِيْنَ لا يُؤْمِنُونَ اْعْمَلُواْ عَلَى مَكَاَنَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَاْنْتَظِرُواْ إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ، وَلِلّهِ غَيْبُ اَلْسَّمَاوَاتِ وَاْلأرْضِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ اَْلأمْرُ كُلِّهِ فَأْعْبِدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( ([14]) فَقَدْ جَاءَتْ قُرَيْشٌ تَقْتَفِي آَثَارَ الْمُهَاجِرَيْنَ تَطْلُبُ الْنَّبِيَّ r وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي ، وَأبُو بَكْرٍ رَفِيْقُ رِحْلَتِهِ يَرْتَقِبُ فَقَالَ هَؤلاءِ قَوْمُكَُ يَطْلُبُونَكَ أمَا وَاللهِ مَا عَلَى نَفْسِي أبْكِى وَلَكِنْ مَخَافَةَ أنْ أرَى فِيْكَ مَا أَكْرَهُ فَقَالَ r : ( لا تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا) ، قَالَ تَعَالَى : ) إلاَّ تَنْصِرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ اَلْذِّيْنَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي اَلْغَارِ إِذْ يَقُوْلُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِيْنَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيْدَهُ بِجِنُوْدٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ اَلْذِّيْنَ كَفَرُواْ اَلْسُفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ اَلْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ ( ([15]).
فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ وَكُونُوا مَعَ الْصَّادِقِيْنَ .
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ .
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ ، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ ، وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ .
أَمَّا بَعْدُ : فَيَا عِبَادَ اللهِ :
يَقُولُ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ـ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيْزِ ) وَتِلْكَ الأيَامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ( ([16]) ، فَلِكُلِّ أمَّةٍ حَضَارَةٌ ، وَلِكُلِّ حَضَارَةٍ تَارِيْخٌ ، وَلِكُلِّ تَارِيْخٍ بِدَايَةٌ ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ أنَّ أَبَا مُوسَى كَتَبَ إلَى عُمَرَ ـ إبَّانَ خِلافَتِهِ ـ إنَّهُ يَأتِيْنَا مِنْكَ كُتُبٌ لَيْسَ لَهَا تَارِيْخٌ ، فَجَمَعَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ الْنَّاسَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أرْخِ بِالْمَبْعَثِ وَقَالَ آخَرُونَ : أَرْخِ بِالْهِجْرَةِ ، فَقَالَ عُمَرُ : الْهِجْرَةُ فَرَّقَتْ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، فَأرْخُوا بِهَا ، وَذَلِكَ سَنَةَ سَبْعِ عَشَرَةَ ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا قَالَ بَعْضُهُمْ : إبْدَأوا بِرَمَضَانَ فَقَالَ عُمَرٌ : بَلْ بِالْمُحَرَّمِ فَإنَّهُ مُنْصَرِفُ الْنَّاسِ مِنْ حَجِّهِمْ فَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ ، نَعَمْ .. إنَّ الْصَّحَابَةَ الْكِرَامَ أخَذَوا التَّأرِيْخَ بِالْهِجْرَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : ) لَمَسْجِدٍ أُسِّسَ عَلَى اَلْتَقْوَى مِنْ أَوْلِ يَوْمٍ ( ([17]) ، لأنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ أنَّهُ لَيْسَ أوَّلَ الأيَّامِ مُطْلَقَاً ، فَتَعَيَّنَ أنَّهُ أُضِيْفَ إلَى شَيءٍ مُضْمَرٍ وَهُوَ أوَّلُ الْزَّمَنِ الَّذِي عَزَّ فِيْهِ الإسْلامُ وَعَبَدَ فِيْهِ الْنَّبِيَُّ r آمِنَاً ، وَابْتَدَأَ بِنَاءُ الْمَسْجِدِ ، وَذَلِكَ أوَّلُ يَوْمٍ دَخَلَ فِيْهِ الْنَّبِيُّ r وَأصْحَابُهُ الْمَدِيْنَةَ ) مِنْ أَوْلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُوْمَ فِيْهِ ، فِيْهِ رِجَالٌ يُحِبُوْنَ أَنْ يَتَطَهَرُواْ وَاللهُ يُحِبُّ اَلْمطَّهِرِيْنَ (([18])، وَقَدْ أبْدَى بَعْضُهُمْ لِلْبَدَاءَة بِالْهِجْرَةِ مُنَاسَبَةً سَلِيْمَةً ، إذْ كَانَتِ الْقَضَايَا الَّتِي يُمْكِنُ أنْ يُؤرَّخَ بِهَا أرْبَعَةً وَهِيَ الْمَوْلِدُ ، وَالْمَبْعَثُ ، وَالْهِجْرَةُ ، وَالْوَفَاةُ ، فَرَجَحَ عِنْدَهُمْ جَعْلُهَا مِنَ الْهِجْرَةِ لأنَّ الْمَولِدَ وَالْمَبْعَثَ لا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنَ النِّزَاعِ فِي تَعْيِيْنِ الْسَّنَةِ بِالْتَّحْدِيْدِ ، وَأمَّا وَقْتُ الْوَفَاةِ فَأعْرَضُوا عَنْهُ لِمَا تُوُقِّعَ بِذِكْرِهِ مِنَ الأسَفِ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَبْقَ غَيْرُ الْهِجْرَةِ ، وَإنَّمَا أخَّرُوهُ مِنْ رَبِيْعِ الأوَّلِ ـ وَقْتَ هِجْرَتِهِ r ـ إلَى الْمُحَرَّمِ ، لأنَّ ابْتِدَاءَ الْعَزْمِ عَلَى الْهِجْرَةِ كَانَ فِي الْمُحَرَّمِ ، إذْ بَيْعَةُ الْرِّضْوانِ وَقَعَتْ فِي أَثْنَاءِ ذِي الْحِجَّةِ ، وَهِيَ مُقَدِّمَةُ الْهِجْرَةِ ، فَكَانَ أوَّلَ هِلالٍ اسْتُهِلَّ بَعْدَ الْبَيْعَةِ وَالْعَزْمِ عَلَى الْهِجْرَةِ هِلالُ الْمُحَرَّمِ فَنَاسَبَ أنَّ يُجْعَلَ مُبْتَدَأً قَالَ تَعَالَى : ) وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَامِ اللهِ ( ([19]).
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْماً : ) إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّوْنَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا صَلُّوْا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوْا تَسْلِيْمًا ( ([20]).
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ .
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالمُسْلِمِينَ ، وَانصُرْهُمْ عَلَى عَدُوِّكَ وَعَدُوِّهِمْ يَا رَبَّ العَالَمِينَ .
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعاً مَرْحُوْماً ، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقاً مَعْصُوْماً ، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْماً .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَاناً صَادِقاً ذَاكِراً ، وَقَلْباً خَاشِعاً مُنِيْباً ، وَعَمَلاً صَالِحاً زَاكِياً ، وَعِلْماً نَافِعاً رَافِعاً ، وَإِيْمَاناً رَاسِخاً ثَابِتاً ، وَيَقِيْناً صَادِقاً خَالِصاً ، وَرِزْقاً حَلاَلاً طَيِّباً وَاسِعاً ، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ .
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ ، وَأَيِّدْ رَايَةَ الْمُؤْمِنِيْنَ ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ أَعْدَائِهِمْ ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِلْعَالَمِ الإِسْلاَمِيِّ فِي كُلِّ رُبُوْعِهِ ، وَاجْعَلِ العِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ لِلإِسْلاَمِ وَجُمُوْعِهِ .
اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ .
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ .
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاوَاتِ وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ .
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ .
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ .
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ .
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ .
عِبَادَ اللهِ :
) إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ ( .